صناعة البذور…الواقع العالمي … بين التبني او الرفض
د.ضياء بطرس يوسف
دائرة البحوث الزراعية، وزارة العلوم والتكنولوجيا
dpyousif@yahoo.com
كانت صناعة البذور في النصف الأوّل من القرن العشرين، محصورة بأيدي مربي النبات في القطاع العام
والمزارعين. في العقود التي تلت ذلك، طرأت تغيرات تتعلق بقوانين الملكية الفكرية وحقوق الابداع والذكاء، فاصبح لتجهيز بذور الاصناف على المستوى العالمي إستراتيجية تهدّف للسيطرة على الجبل الوراثية للنبات، اي حقوق امتلاك البني الوراثية لتلك الاصناف او الهجن، بما يجعلها ملكاً حصرياً لمستنبطيها، ويزيّد الأرباح الناجمة عن تداولها وبيعها وزراعتها، اي بتعبير اخر، ادى ذلك الى الغاء او اهمال حقوق المزارعين في الحفاظ على وتداول الطرز الوراثية التي حفظتها الطبيعة من خلالهم لألاف السنين، والتي تتسم بمحدودية قدرتها الانتاجية او عدم استجابتها للتسميد بمستويات عالية، او حساسيتها للاصابة بالمسببات المرضية.
في عالم اليوم، يعد إمتلاك سوق البذور بانه صعقة مساهمة تجهيزها للعالم بالأسلوب التجاري الذي يبغي تحقيق المنافسة على المبيعات وتحقيق الربح من جهة، وزيادة الانتاجية لوحدة المساحة من جهة ثانية. في أقل من ثلاثة عقود، هندست مجموعة رصينة من الشركات الدوليّة ما يضمّن انتاجها السريع والمؤثر من الناحية الانتاجية او مقاومة الشدود البيئية لدى المزارعين وشركات انتاج الأغذية والسلسلة الغذائية. طبقا لهذا السياق، فان إمتلاك سوق البذور (العلامة التجارية للبذور الخاضعة للإحتكار الخاصّ -وبمعنى آخر، الملكية الفكرية)، يفسّر الآن امتلاكها أكثر من 82 % من سوق البذور التجارية عالمياً.
إمتلكت سوق البذور ألأمريكية في عام2007 حوالي 22 بليون دولار، بينما بلغت عائدات سوق البذور التجارية الكليّة ما قيّمته 26,7 بليون دولار لنفس العام) مع الاشارة الى ان سوق البذور التجارية، لا يتضمّن بذور المزارعين التي يحفظونها لأنفسهم بهدف زراعتها في الموسم اللاحق.
تقدر مبيعات شركات البذور العشر الكبرى (مونسانتو الامريكية، دو بونت (بايونير سابقاً) الامريكية، سينجنتا السويسرية، مجموعة ليما جرين الفرنسية، لاند ليك الامريكية، ك دبليو إس – أي جي الألمانية، باير كروب ساينس الألمانية، ساكاتا اليابانية، دي ايل اف – تريفوليوم الدانماركية، تاكي اليابانية) حسب إحصاء ETC عام 2007،ب 14,785 بليون دولار -أو ثلثي (67 %) من سوق البذور العالمية، ناهيك عن شركات انتاج وتوزيع البذور الاخرى في العالم.
اما شركة البذور الأكبر في العالم، مونسانتو، فتقدر مبيعاتها بربع النسبة الكلية، تقريبا (23 %) من سوق البذور العالمية. بينما تقدر مبيعات الشركات العليا الـثلاث (مونسانتو، دوبونت، سينجينتا) فحوالي 10,282 بليون دولار، أو 47 % من السوق العالمية. اما مجموعة شركات ETC معها فتسيطر على 65 % من سوق بذور الذرة الصفراء حول العالم، وعلى نصف سوق بذور فول الصويا.
اعتماداً على إحصائيات الصناعة، فان مجموعة شركات ETC تخمّن بأنّ بذور وميزات تقنية مونسانتو الحيوية (بضمنها تلك العائدة إلى الشركات الأخرى) فسّرتا استثمار 87 % االمساحة العالمية الكليّة المسخرة بالبذور المهندسة جينيا في عام 2007. تدّعي الشركة بأنّها تجيز استخدام ميزات تقنيتها الحيوية ﻠ 250 شركة إضافية. تقريبا نصف (48 %) من دخل بذور شركة دوبونت جاء من المنتجات التي حملت ميزة التقنية الحيوية (اي البذور المهندسة او المحورة وراثياً). قدرت المجموعة الاستشارية البريطانية، كروبنوسيس، القيمة العالمية للمحاصيل المحوّرة وراثيا في 2007 بحوالي 6.9 بليون دولار. ويبقى التساؤل المهم: من الذي استهلك انتاج هذه البذور المزروعة؟ واين زرعت؟ ولمن تم تسويقها؟ وما هي طبيعة مستهلكيها؟ وهل استخدمتها الدول المنتجة لها في الغذاء والصناعة؟ وكيف؟
انها اسئلة محيرة وتحتاج الى اجابة، على الاقل ممن يستورد البذور والغذاء، الى جانب استبيانها من باب المعرفة العلمية والاقتصادية والاجتماعية، ويضاف لها التساؤل الاتي: هل تتوافر الفحوصات المختبرية الدقيقة والمضمونة للتشخيص؟ وماذا عن تأثيراتها المستقبلية ؟.
إحتكار تقنية الجينات العملاقةGene Giant’s Tech. Cartel
من المؤكد، ان هناك إتفاقيات مبرمة بين الشركات المتمكنة من التكنولوجيا الحيوية، وان منظّمات عدم الثقة (أي من خارج هذه الشركات) في بروكسل وواشنطن قد أعدوا ملاحظاتهم حول الموضوع ويمكن تلخيصه بالآتي: إنّ تقنية الجينات العملاقة تصيغ تحالفات لم يسبق لها مثيل في اعداد الأسواق التنافسية كما عهدناه في الماضي. من خلال الموافقة على تراخيص الملكية للجبل الوراثية (الطرز الوراثية) والتقنيات، المدعمة بجهود ا ﻠ R & D تنهي التشريعات القضائية التي يمكن ان تكون تكلفتها عالية على الشركات المنتجة، ان شركات انتاج الكيميائيات الزراعية العالمية وشركات انتاج البذور الأكبر في العالم تعزّز قوّة سوقها التجارية بما يسمى بالمنفعة المتبادلة. هذا التوجه العالمي ليس بجديد، لكن صفقات إحتكار التقنية تكبر وتزداد استفحالاً وتسابقاً.
في مارس/آذار 2007 اعلنت شركتا مونسانتو لأنتاج البذور و باسف ( (BASF انهما حققتا بالتعاون ما قيمته 1.5 بليون دولار R & D لزيادة تحمّل الجفاف لمحاصيل الذرة الصفراء، القطن , الكانولا (السلجم) وفول الصويا.
تشير مجموعة ETC إلى هذا النوع من الشراكة بصيغة “إندماج بغير إندماج” بما يعزز كلّ منافع الأسواق الإحتكارية بدون قيود ومحددات منظمة عدم الثقة. يتوقّع محلّلو صناعة البذور أن يكون للإتفاقيات انتاج دائم من تسخير التقنية الحيوية وصناعة وحماية المحصول.
ان إنجاز التقنية الحيوية الأكثر تحقيقاً للربح تختص بهندسة المحاصيل لمقاومة رش المبيدات الكيميائية للاعشاب الضارة. اعتمدت80 % من المساحة المزروعة عالمياً على المحاصيل المهندسة جينيا، وهي تحمل على الأقل ميزة وراثية واحدة وهي تحمّل مبيد الأعشاب.
إتفاقيات إحتكار تقنية العيّنة
اعلنت شركتا مونسانتو وBASF في بيان صحفي مشترك (مارس/آذار 2007) تحقيق 1.5 بليون دولار R & D بتعاونهما المتضمّن نسبة مشاركة في الارباح 60/40 ، على التوالي. “يعد ذلك خطوة كبيرة ومتقدمة لترغيب مزارعي المحاصيل لتحقيق أعلى غلة. . .”. ارتبطت شركتا مونسانتو و داو للكيميائيات الزراعية لتطوير الذرة الصفراء المهندسة جينياً لكيما يطلقا اصنافاً تحمّل ثمان صفات وراثية محورة، في عام 2010. وبالتالي سيكون هناك إختيارات أكثر للمنتج من قبل المزارعين لتحسين الأداء والحماية ( بيان داو الصحفي، أيلول 2007). كما اتفقت شركتا مونسانتو وسينجينتا على الدعوة لهدنة على التفاوض المتعلّق بالذرة الصفراء وفول الصويا، وعقدا إتفاقيات وتراخيص جديدة نصت على “نحن مسرورون لوضع زبائننا المزارعون في المقام الاول لأهدافنا وتوصّلنا إلى إتفاقية تقدم منافع وإختيارات كبيرة بما يدفعهم الى الأمام.” ( بيان مونسانتو الصحفي، مايس 2008). واعلنت شركتا سينجينتا ودوبونت إتفاقية ستوسّع انتاج مبيدات حشرات بما يمثل استكمّالاً لخطوط أنتاجهما، فيزوّد المزارعين بخيارات إضافية (دوبونت وسينجينتا، بيان صحفي مشترك، حزيران 2008).
من وجهة نظر صناعة البذور، فان تحوير ثلاث صفات باستخدام التقنية الحيوية أفضل بكثير من تحوير صفة واحدة، لأن الصفات المحورة المضاعفة والثلاثية تعطي ربحاً مضاعفاً. في هذا الخصوص، استطاعت مونسانتو ان تقدم تشكيلة ميزتها الأولى ثنائية الصفات في عام 1998، وحققت انجازها الضارب بثلاث صفات محورة في سوق البذور عام 2005. في هذا الخصوص، أخبر متحدث بلسان مونسانتو احد المزارعين بأنّ 76 % من بذور هجن الذرة الصفراء الممثلة لثلاث صفات محورة وراثياً قد بيعت في الولايات المتّحدة في عام 2009.
ألاهداف التجارية
في إجتماع تموز 2008، أعلن مسؤولي مونسانتو عن خططهم لرفع متوسط سعر بذور بعض هجن الذرة الصفراء الثلاثية التحوير الوراثي في صفاتها بما يساوي 35% عن السعر السائد. على الرغم من ذلك، ليس هناك قاعدة علمية لتبرير هذه الزيادة في السعر، وبالتالي لا يمكن ترك الشركات المنتجة للبذور ان تتصرف على هواها في الجشع الذي يمس قوت الشعوب ولابد ان لا تفلت من دون عقاب. إنّ الحكومة الأمريكية تدعم حاليا مبيعات مونسانتو من بذور الذرة الهجين المحورة الثلاثية من خلال عرض علاوات تأمين المحصول الأوطأ إلى المزارعين الذين يزرعونه على الأرض الديمية، لأن زراعة الذرة الصفراء المحورة اقل خطر عند مقارنتها بالهجن التقليدية. إنّ المشروع التجريبي خادع خصوصا لأن الحكومة الأمريكية إعتمدت على البيانات من مونسانتو لتثبيت إدّعاؤها، ولم تستند على نتائج موثوقة من قبل وزارة الزراعة الامريكية، بحجة ان مثل هذه الشركات الرصينة وبشهرتها العالمية لا يمكن ان تجازف بسمعتها.
لماذا الاصناف المحورة وراثياً
ان المعالجات التي قدمتها ولا تزال تقدمها التقنية الحيوية المتعلقة بالتحوير الوراثي ستزيد إنتاج الغذاء حتما وتغذّي المجتمعات الفقيرة في العالم. في الحقيقة انها الحلول المرغوبة لتخفيف الأزمة الغذائية والمناخ الحالي اللذان يتغيّران بخطى متسارعة مع الزيادة السكانية الهائلة (الشعار الحالي لمنظمة صناعة التقنية الحيوية “االصحة والوقود والتغذّية للعالم.” ). يهدّف صناع البذور المحورة وراثياً إقناع الحكومات، المزارعون والمستهلكون الممانعون والمعارضون لإستراتيجية هندسة الجينات الى التكيّف الضروري لتأمين الإنتاجية الزراعية في خضم تأثيرات التغيرات المناخية. طبقا لأراء مختصي مونسانتو، “لا بد ان يعترف كلّ انسان بأنّ استخدام الطرائق التقليدية القديمة فقط ليست قادرة على مخاطبة ومواكبة هذه التحديات الجديدة” – لذا فان الأمل الذي يحدو المختصين والحكومات هو تبني استخدامها والايمان بمناخ المحاصيل المحوّرة وراثياً.